قصة اليوم حدثت مع استاذ جامعي، في ستينيات القرن الماضي بمدينة الزرقاء في الأردن.
وبينما كان الأستاذ الجامعي عائدا من عمله، مر بالقرب من مخيم اللاجئين الفلسطينيين، في وقت الظهيرة، حيث كان الجو مزدحما بالسيارات التي تنقل الجنود والكثير من المارة.
وفي هذا الوقت لاحظ وجود طفلة تبلغ من العمر حوالي أربع سنوات، شقراء الشعر لون عينيها رمادي وفي بياض عينيها نقطة سواء، تنتحب من البكاء وكأنها تبحث عن شيء وتبكي.
فذهب اليها وسالها لماذا تبكين؟. . فقالت اريد ماما، قال لها وما هو اسمك؟ قالت : آمنة محمد محمود.
شعر الاستاذ الجامعي بالاسى على هذه الطفلة؛ فأخذها من يدها و خمن أنها على الأغلب تائهه من مخيم اللاجئين.
فذهب الى مختار مخيم اللاجئين، وشرح له الأمر، فأبلغه المختار أنه لم يتلق بلاغا عن وجود طفلة ضائعة.
انتظر الاستاذ الجامعي الى جوار مختار المخيم، حتى قاربت الشمس على المغيب، على أمل أن يظهر أهلها.
ولما شعر بقرب الليل، وقد تاخر على عائلته، اقترح الأستاذ الجامعي على مختار المخيم ان يبقى الطفله معه حتى يظهر اهلها.
ولكن المختار رفض هذا الاقتراح؛ لأن هذه مسؤولية كبيرة، و اقترح على الاستاذ الجامعي ان ياخذها معه هذه الليلة، ويعود بها في الصباح.
قبل الاستاذ الجامعي وهذا الاقتراح، فأخذ الطفلة الصغيره معه، ونامت مع اطفاله في تلك الليله، وفي الصباح عاد بها الى المخيم.
ولكن مع الاسف، أكد له المختار أنه لم يتلق أي بلاغ عن وجود طفلة غائبة، فأخذها الاستاذ الجامعي الى المكان الذي عثر عليها فيه، واخذ يسأل الماره، ثم ذهب الى الشرطة وأبلغهم بما حدث، وانتشر الخبر عن وجود طفلة ضائعة مع الأستاذ الجامعي؛ حتى إذا ظهر أهلها يدلون على مكان وجودها.
مر على الحادثة اسبوع واسبوعين وثلاثة ولم يسأل احد عليها، في البداية كانت الطفلة حزينه وتبكي كثيرا، وكانت تقول اريد اهلي؛ ولكن مع الوقت تأقلمت مع أطفال الأستاذ الجامعي، حتى مرت السنوات، وبلغت من العمر 13 سنة.
بعد أن بلغت الطفلة وصار عمرها 13 سنة، بدأت زوجة الأستاذ الجامعي تغار من هذه الطفلة، وتحدث معها المشاكل واصرت على إخراجها من المنزل.
ولكن الأستاذ الجامعي رفض؛ لأنه لم يستخرج لها اية اوراق قانونيه، فالى اين تذهب واين سيتركها، واصر على وجودها في منزله ولم يتخل عنها.
توالت السنوات حتى بلغت الفتاة عمر 17 سنه، ولا زالت المشكله قائمه في المنزل بينها وبين زوجة الأستاذ الجامعي.
ففكر الأستاذ الجامعي في تزويجها؛ لكي يضمن لها حياة كريمة، دون أن يتركها في الشارع دون مأوى، وفي تلك الاثناء كان هناك طالب جامعي نشيط ومجتهد وفي اخر سنه من الدراسه على مشارف التخرج ففكر الاستاذ جامعي في تزويجها له.
وفي يوم وبعد انتهاء المحاضرة، استدعى الأستاذ الجامعي هذا الطالب وسأله عن خططه المستقبلية بعد التخرج، فقال له انه يريد ان يعمل ويتزوج مباشرة بعد التخرج.
شرح الاستاذ الجامعي وضع الفتاة للطالب بكل امانه وصدق، وأظهر أنه يرغب في تزويجها له، وأكد له على أن الأب هو الذي يربي وليس الذي ينجب، وان تلك الفتاة مثل ابنائه تماما، فتحمس الشاب الى العرض وذهب الى والده وشرح له امر استاذه الجامعي.
لما سمع الأب ذلك العرض قال ان الاستاذ الجامعي رجل محترم، واثنى عليه وعلى ابنائه، واخذ ابنه لطلب يدي تلك الفتاة من الأستاذ الجامعي، ولما كانت الرؤية الشرعية احبها الشاب من اول مره لحسنها وجمالها الذي لم ير مثله من قبل.
اتفقت العائلتان على كل شيء، ولكن لم يبقى سوى الأوراق الثبوتية، اذ ان الفتاه لم يكن لها اوراق رسميه في الدوله.
ولكن مع شهادة مختار الحي، وأوراق البلاغ الذي كان في قسم الشرطة، وشهادة الشهود، تم استخراج وثيقة لها من الاحوال المدنيه باسمها الثلاثي "آمنة محمد محمود"، وبقي اسم العشيرة، فكتبوا اسما عاما.
وتم عقد القران وتزوجت الفتاة وعاشت مع زوجها حياة سعيدة لمدة عام ونصف، وأنجبت منه طفلا جميلا، ولكن بقي في حلقها غصة، إذ كانت دائما ما تتساءل أين هم أهلي؟! ولم يتركوني ولم يبحثوا عني؟!.
في الوقت نفسه كانت تزور بيت الاستاذ الجامعي نادرا بسبب كثره المشاكل التي حدثت معها في السنوات الأخيرة.
بعد مرور عام ونصف على زواجها من الشاب جاء له عقد عمل في الامارات.
سافرت الفتاة مع زوجها وهناك تعرفت على جارة لها ايضا من مدينة الزرقاء، وكانتا تقضيان الوقت مع بعضهم البعض وتتعاونان في الكثير من الاشياء.
وبعد مرور عام كامل من الصحبة والرفقة، كانتا تتسامران ذات مساء، فقالت الصديقة أنها تأسى على حكاية أحد جيرانها في مدينة الزرقاء وهو شاب يبحث عن أخته التي تاهت منذ ما يقرب من 15 سنة.
وأردفت الصديقة قائلة إن والد تلك الفتاة الضائعة حزن لأجلها حزنا كثيرا، بعدما يئس من العثور عليها، وأصيب بمرض السكر والقلب، حتى توفي بعد ضياعها بثلاث سنوات ولا زال اخوها يبحث عنها حتى يومنا هذا.
فلما سمعت آمنه هذا الكلام تسارعت نبضات قلبها، وسألتها ما هو اسم هذه الفتاة؟.. فقالت ولم تسالين؟! قالت ارجوك قولي لي؟! فقالت لها اظن انها اسمها "امنه".
ففزعت آمنة، وطلبت من الصديقة ان تتصل بشكل عاجل على أهلها لتتأكد من اسم الاب والجد.
اتصل اهل الصديقة على الجار وعرفوا منه ان اسمه فلان محمد محمود.
ولما تاكدت ان هناك احتمال كبير ان هذا هو أخوها الذي يبحث عنها، أخبرت امنه صديقتها انها ايضا ضائعه من اهلها منذ ما يقرب من 20 سنة، ولكنها تستحي ان تحكي هذه القصة لاي احد لان هذا يعد منقصه في حقها.
في الوقت نفسه اتصلت امنه على زوجها، وطلبت منها أن يحجز لها تذكره لتعود الى الاردن، ولما عادت ذهبت الى ابوها الذي رباها، واخبرته بالتفاصيل كلها.
في الوقت نفسه ذهبت صديقتها معها إلى الأردن، لترتيب موعد ليلتقي الأخ بأخته.
تواصل الأستاذ الجامعي مع الأخ، وطلب منه صوره لأخته الضائعة، والتي كانت متطابقه الملامح تماما مع الصور التي التقطها الأستاذ الجامعي لها وهي صغيره، بنفس الشعر الأصفر والعيون الرمادية والنقطة السوداء في بياض عينيها.
وما أن التقيت امنه بأخيها، حتى انهارا من البكاء، وأخذ اخوها يحضنها وهي تقبل رأسه لانه لم يتخلى عن البحث عنها، رغم كل تلك السنوات.
وبعد ان هدأت الامور بدءا يستوعبان كيف وصلت آمنة الى الزرقاء، فوصلا إلى أن آمنة كانت بالأساس أصولها تركية، وتسكن في شمال الأردن.
وعندما كانت أمام البيت تلعب مع الأطفال، وجدت السيارات تقل الجنود من هذه المنطقة، فركبت في إحداها، ولما انطلقت السيارة خافت ونمت، واستيقظت بعد مدة لتجد نفسها في مكان آخر لا تعرف عنه اي شيء، فعثر عليها الأستاذ الجامعي.
اراد الأخ ان يأخذ اخته؛ ليعرفها على امها واخواتها في شمال الاردن، ولأن امها كانت مسنه، لم يستطع ان يبوح لها بالخبر فجاه فاتصل عليها وقال لها معي ضيوف وجهزي لنا المنسف فنحن قادمون في الطريق.
عندما وصلت امنه الى بيت اهلها ورأت اخوانها واخواتها وامها يجلسون أخذت في البكاء والصياح وانهارت.
قال لها أخوها دعيني امهد لامي الموضوع، ولكنها لم تستطع أن تكتم مشاعرها، وذهبت الى امها وجلست بجوارها، وكشفت عن يدها التي كانت فيها لسعه من التنور.
عندما رأت الام تلك اللسعة، ودققت في ملامحها التي كانت تشبه ملامح اخوتها الى حد كبير، تذكرت ان تلك اللسعة حدثت عندما كانت تعلمها كيف تخبز الخبز وهي صغيره وحضنتها امها وبكت كثيرًا وقالت والله انك انت امنه.